[size=16]قال الله جل وعلا:﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَاأَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾(الكافرون: 1- 6). أولاً- لم يكن العرب في جاهليتهم الأولى يجحدون الله تعالى؛ ولكنهم كانوا لا يعرفونه بحقيقته، التي وصف بها نفسه، والتي عرفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنون؛ ولهذا كانوا يشركون به آلهتهم في العبادة، وكانوا لا يقدرونه حق قدره، ولا يعبدونه حق عبادته. لقد كانوا يؤمنون بوجود الله تعالى، وأنه الخالق للسموات والأرض، والخالق لذواتهم؛ ولكنهم مع إيمانهم به، كان الشرك يفسد عليهم تصورهم؛ كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم. وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم عليه السلام، وأنهم أهدى من أهل الكتاب، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية؛ لأن اليهود كانوا يقولون: عزيرٌ ابن الله. والنصارى كانوا يقولون: عيسى ابن الله، بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن، على اعتبار قرابتهم من الله- على حدِّ زعمهم- فكانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقاً؛ لأن نسبة الملائكة والجن إلى الله أقرب من نسبة عزير وعيسى.. وكله شرك، وليس في الشرك خيار.
ولما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يقول:﴿ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾(الأنعام: 161)، قالوا: نحن على دين إبراهيم، فما حاجتنا- إذًا- إلى ترك ما نحن عليه، واتباع محمد ؟! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة وسطًا بينهم، وبينه، فعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه، وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم، وله فيهم وعليهم ما يشترط !
ولعل اختلاط تصوراتهم، واعترافهم بوجود الله مع عبادة آلهة أخرى معه، كان يشعرهم أن المسافة بينهم، وبين محمد قريبة، يمكن التفاهم عليها، بقسمة البلد بلدين، والالتقاء في منتصف الطريق، مع بعض الترضيات الشخصية؛ كما يفعلون في التجارة تمامًا. وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها؛ لأن الصغير منها كالكبير؛ بل ليس في العقيدة صغير وكبير، إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء، لا يطيع فيها صاحبها أحدًا، ولا يتخلى عن شيء منها أبدًا. وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، ولا أن يلتقيا في أي طريق؛ وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان- جاهلية الأمس، وجاهلية اليوم، وجاهلية الغد كلها سواء- إن الهوة بينها، وبين الإسلام لا تُعْبَرُ، ولا تقام عليها قنطرة، ولا تقبل قسمة، ولا صلة، ولا مساومة؛ وإنما هو النضال الكامل، الذي يستحيل فيه التوفيق بين الحق، والباطل !
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يساوم فيه المشركون النبي صلى الله عليه وسلم، ويدهنون له؛ ليدهن لهم ويلين،كما يودون، ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه؛ ليتابعوه في دينه، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب، على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول ! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاسمًا في موقفه من دينه، لا يساوم فيه، ولا يدهن، ولا يلين، حتى وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة، وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يتخطفون، ويعذبون، ويؤذون في الله أشد الإيذاء، وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الطغاة المتجبرين، تأليفًا لقلوبهم، أو دفعًا لأذاهم، ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب، أو من بعيد، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبًا، وأحسنهم معاملة، وأبرُّهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين، وهو فيه عند توجيه ربه؛ حيث يقول له سبحانه:﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ﴾(القلم: !
وروى ابن اسحق في سبب نزول هذه السورة الكريمة، فقال:” اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالكعبة- فيما بلغني- الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: يا محمد ! هَلُمَّ، فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه ! فأنزل الله تعالى فيهم:
وهكذا بهذا الجزم، وبهذا التوكيد، نزلت هذه السورة الكريمة؛ لتحسم كل شبهة واهية، وتقطع الطريق على كل محاولة رخيصة، ومساومة مضحكة، وتفصل فصلاً حاسمًا بين عبادة الحق وعبادة الباطل، وتفرق نهائيًاً بين التوحيد والشرك، وتقيم المعالم واضحة، لا تقبل المساومة والجدل في قليل، ولا كثير.
ثانيًا- وافتتاح السورة الكريمة بهذا الأمر الإلهي الحاسم:﴿قُلْ ﴾، لإِظهار العناية بما بعد القول، وهو افتتاح موح بأن أمر هذه العقيدة هو أمر الله تعالى وحده، ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فيه شيء؛ إنما هو الله الآمر، الذي لا مردَّ لأمره، والحاكم، الذي لا رادَّ لحكمه. ﴿قُلْ ﴾: ﴿ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ !
وإنما ابتدىء الخطاب بهذا النداء ﴿ يَاأَيُّهَا ﴾، الذي يجمع بين نداء النفس، ونداء القلب، ونداء الروح؛ لأن النداء به يستدعي إقبال المنادَى على ما سيلقى عليه، بنفسه، وقلبه، وروحه.
و﴿الْكَافِرُونَ﴾ جمع: كافر، صفة فاعل، من: كفر يكفر. وتعريفه للجنس، فيعمُّ كل كافر. والكفر في اللغة: ستر الشئ. ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، والزارع لستره البذر في الارض. وكفْر النعمة وكفْرانها: سترها، بترك أداء شكرها. قال تعالى:﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾(الأنبياء: 94).
وأعظم الكفر جحود الوحدانية، أو الشريعة، أو النبوة. واستعمال الكفران في جحود النعمة أكثر من استعمال الكفر، واستعمال الكفر في الدين أكثر من استعمال الكفران، والكفور يستعمل فيهما جميعًا. قال تعالى:﴿فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً﴾(الإسراء: 99).
وبيانه: أن هذه السورة نزلتفيهم بتمامها، وليس كذلك سورة الزمَر؛ ولهذا كان لا بدَّ من أن تكون المبالغة بالوصف فيها أبلغَ وأشدَّ. ولا يوجد لفظ أبلغ في الكشف عن حقيقتهم، وأشدُّ وقعًا عليهم من لفظ { الكافرين }. ثم إنه لا يوجد لفظ أبشع، ولا أشنع من هذا اللفظ؛ لأنه صفة ذمٍّ عند جميع الخلق. قال القرطبي:” قال أبو بكر بن الأنباري: إن المعنى: قل للذين كفروا:﴿يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ ! أن يعتمدهم في ناديهم، فيقول لهم:﴿يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ ! وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر “.
ولكون هذا اللفظ صفة ذمٍّ عند جميع الخلق، ويتضمَّن مع الذمِّ الإهانة، لم يقع الخطاب به في القرآن في غير موضعين، هذا أحدهما، والثاني قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ﴾(التحريم: 7).
والفرق بين الوصفين أن﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ يحتمل أن يكونوا قد آمنوا، ثم كفروا. أما ﴿الْكَافِرُونَ﴾ فيدل على أن الكفر صفة ملازمة لهم، ثابتة فيهم، وأنهم ليسوا أصحاب عقيدة، يؤمنون بأنها الحق؛ لأنهم ليسوا على دين، خلافًا لما كانوا يدَّعون من أنهم على دين إبراهيم عليه السلام؛ وإنما همأصحاب ظواهر، يهمهم أن يستروها؛ لأنهم كافرون، ولا التقاء بين الكفر، والإيمان في طريق.
وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاحها بهذا الخطاب، بحقيقة الانفصال، الذي لا يرجَى معه اتصال بين الكفر والإيمان، والحق والباطل !
ولسائل أن يسأل: لمَ جاء خطابهم في قوله تعالى:﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، بوساطة الأمر ﴿قُلْ﴾، وجاء بدونه في قوله تعالى:
ويجاب عن ذلك بأن الخطاب في سورة ( التحريم )؛ إنما هو خطاب لهميوم القيامة، وهو يوم لا يكون فيه الرسول رسولاً إليهم؛ ولهذا جاء خطابهم بدون وساطة الأمر ﴿قُلْ﴾. ثم إنهم في ذلك اليوم يكونون مطيعين، لا كافرين؛ فلذلك ذكرهم الله تعالى بقوله:﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.
أما الخطاب في سورة ( الكافرون )فهو خطاب لهم في الدنيا، وأنهم كانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم رسولاً إليهم؛ فلهذا جاء خطابهمبوساطة الأمر ﴿قُلْ﴾. وفي ذلك إشارة إلى أن من كان الكفر وصفًا ثابتًاله، لازمًا لا يفارقه، فهو حقيق أن يتبرَّأ الله تعالى منه، ويكون هو أيضًا بريئًامن الله تعالى ورسوله.
ثالثًا-وقوله:﴿ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ جواب للنداء، وهو نفي للحال، ويقابله قوله:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ ﴾. أي: لا أعبد الآن ما تعبدون، ولا أنتم تعبدونالآن ما أعبد أنا.
أما قوله:﴿وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ فهو نفي للمستقبل، ويقابله قوله:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ ﴾. أي: ولا أعبد أنا في المستقبل، ما عبدتم أنتم في الماضي.ولا أنتم عابدون في المستقبل ماأعبد الآن، وفي المستقبل.
وعلى هذا فلا تكرار أصلاً في السورة، خلافًا لمن زعم أن هذا تكرار، الغرض منه التوكيد. وبهذا الذي ذكرت تكون الآيات الكريمة قد استوفت أقسام النفي عن عبادته صلى الله عليه وسلم، وعبادة الكافرين، في الماضي،والحاضر، والمستقبل، بأوجز لفظ، وأخصره، وأبينه.
ثم إن في تكرير الأفعال بلفظالحال والمستقبل، حين أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وتكريرها بلفظ الماضي، حين أخبر عنهم،سرٌّ بديع من أسرار البيان، وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله تعالى له عن الزيغ، والانحراف عنعبادة معبوده، والاستبدال به غيره، وأن معبوده عليه الصلاة والسلام واحد في الحال، وفي المآل على الدوام، لا يرضى به بدلاً، ولا يبغي عنه حولاً، بخلاف الكافرين، فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين، وأغراضهم، فهم بصدَد أن يعبدوااليوم معبودًا، وغدًا يعبدون غيره.
رابعًا- وقال:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ ﴾، فعبَّر عن معبوده بـ﴿ مَا ﴾ دون ﴿ مَنْ ﴾؛ لأن المراد التعبير عن معبوده عليه الصلاة والسلام على الإطلاق دون تخصيص؛ لأن امتناعهم عن عبادة اللهتعالى ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم كانوا يعبدون الله؛ ولكنهم كانوا جاهلين به؛ ولهذا ناسب إيقاع ﴿ مَا ﴾ عليه دون ﴿ مَنْ ﴾ لمَا في الأولى من دلالة على الإبهام، والوقوععلى الجنس العام.
وهذا ما أجاب به الشيخ السهلي رحمه الله، ثم ذكر جوابًا آخر؛ وهو:”أنهم كانوا يشتهون مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسدًا له، وأنفة مناتباعه، فهم لا يعبدون معبوده، لا كراهية لذات المعبود؛ ولكن كراهية لاتباعه صلىالله عليه وسلم، وشهوة منهم لمخالفته في العبادة، كائنًا ما كان معبوده، وإن لم يكن معبوده إلا الحق سبحانه وتعالى.. فعلى هذا لا يصح في النظم البديع، والمعنى الرفيع إلا ﴿ مَا ﴾، لإبهامها، ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية “.
وأقرب من هذا وذاك- كما قال ابن قيِّم الجوزيَّة-:” هو أن المقصود هنا ذكر المعبود، الموصوف بكونهأهلاً للعبادة، مستحقًا لها، فأتى بـ﴿ مَا ﴾ الدالة على هذا المعنى؛كأنه قيل: ولا أنتمعابدون معبودي، الموصوف بأنه المعبود الحق. ولو أتى بلفظ ﴿ مَنْ ﴾، لكانت إنما تدل علىالذات فقط، ويكون ذكر الصلة تعريفًا، لا إنه جهة العبادة. ففرق بين أن يكون كونهتعالى أهلاً لأن يعبد تعريف محض، أو وصف مقتض لعبادته.. فتأمله، فإنه بديعٌ جدًّا “.
خامسًا- ومن يتأمل صيغ النفي في السورة الكريمة، يجد أن النفي لم يأت في حقالكافرين إلا بصيغة الفاعل:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ﴾. وأما في جهة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءالنفي بالفعل المضارع:﴿ لا أَعْبُدُ ﴾ تارة، وبصيغة الفاعل:﴿وَلا أَنَا عَابِدٌ ﴾ تارة أخرى؛ وذلك- والله أعلم- لنكتة بديعة، وهي أن المقصود الأعظم من ذلك براءته صلى الله عليهوسلم، من معبوديهم بكل وجه، وفي كل وقت؛ ولهذا أتى في هذا النفي بصيغة الفعل الدالةعلى الحدوث والتجدد، ثم أتى بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت؛ فأفاد في النفي الأول أن تلك العبادة لا تقع منه أبدًا، وأفاد في النفي الثاني أن تلك العبادة ليست من وصفه، ولا من شأنه؛ فكأنه قال عليه الصلاة والسلام: عبادة غير اللهتعالى لا تكون فعلاً لي، ولا وصفًا من أوصافي، فأتى بنفييْن لمنفيَّين مقصودين بالنفي.
وأمافي حق الكافرين فإنما أتى بصيغة الفاعل الدالة على الوصف والثبوت دون الفعل؛ فأفادذلك أن الوصف الثابت اللازم، العائد لله تعالى، منتفٍ عن الكافرين؛ لأن هذا الوصف ليسثابتًا لهم؛ وإنما هو ثابت لمن خصَّ الله تعالى وحده بالعبادة، ولم يشرك معه فيهاأحدًا.
قال ابن قيِّم الجوزيَّة:” فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيَّها أنه لا يوصف بأنه عابدٌ للهتعالى، وأنه عَبْدُهُ المستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكلِّيته، وتبتَّل إليهتبتيلاً، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه، وإن عبده وأشركبه غيره، فليس بعابدٍ لله تعالى، ولا عَبْدًا له سبحانه. وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتيْ الإخلاص،والتي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلامن منحه الله فهمًا من عنده.. فلله الحمد والمِنَّة “.
سادسًا- ومن أسرارهذه السورة، التي لا يكاد يُفطَن إليها أنالنفي فيها أتى بأداة النفي { لا }، ولم يأت بالأداة { ما }،مع أن نفي الحاضر الدائم والمستمر بـ{ ما } أولى من نفيه بـ{ لا }، وأكثر منه استعمالاً. والسر في ذلك أن { ما } لا ينفى بها في الكلام إلا ما بعدها، وأنها لا تكون إلا جوابًا عن الدعوى. أما { لا } فينفى بها في أكثر الكلام ما قبلها، فيكون ما بعدها في حكم الوجوب، وأنها تكون جوابًا عن السؤال، وتكون ردًّا لكلام سبق. هذا من جهة.. ومن جهة أخرى فإن { لا }، إذا نفي بها المضارع، فإنها تدل على نفيه نفيًا شاملاً مستغرقًا لكل جزء من أجزاء الزمن، بدون قرينة تصحبها؛ كقوله تعالى:﴿ عَالِمِ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾(سبأ: 3). أما { ما } فلا تدل على نفي المضارع على سبيل الاستغراق والشمول إلا بوجود قرينة تصحبها، وهي{ من } الاستغراقية؛ كقوله تعالى:﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾(يونس: 61).
وبهذا تكون هذه السورة العظيمة قد اشتملت على النفي المحض. وهذا هو خاصيَّتها؛ فإنها سورة براءةٍ من الشرك- كما جاء في وصفها- فالمقصود الأعظم منها هو البراءة المطلوبة بين الموحدين، والمشركين؛ ولهذا جيء بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، مع أنها متضمنَّة للإثبات صريحًا، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:﴿ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ براءة محضة. وقوله:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ ﴾إثبات أن له عليه الصلاة والسلام معبودًا، يعبده، وأنهم بريئون من عبادته، فتضمَّنت بذلك النفي، والإثبات، وطابقت قول إمام الحنفاء سيدنا إبراهيم عليهالسلام:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾(الزخرف: 26- 27)،وطابقت قول الفئة الموحِّدين:﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾(الكهف: 16)، فانتظمت بذلك حقيقة { لا إله إلا الله }.
ولهذا- كما قال ابن قيِّم الجوزيَّة- كان النبيصلى الله عليه وسلم يقرن هذه السورة العظيمة بسورة ( قل هو الله أحد )، في سنةالفجر، وسنة المغرب؛ فإن هاتين السورتين ( سورتي الإخلاص ) قد اشتملتا على نوعَيْالتوحيد، الذي لا نجاة للعبد، ولا فلاح له إلا بهما:
النوع الأول: توحيد العلموالاعتقاد، المتضمِّن تنزيه الله تعالى عمَّا لا يليق به، من الشرك والكفر، والولدوالوالد، وأنه إله أحد صمد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكنله كفوًا أحد، فيكون له مِثْل. ومع هذا فقد اجتمعت له جل جلاله صفات الكمال كلها؛فتضمنَّت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال، ونفي ما لا يليق بجلاله منالشريك أصلاً وفرعًا، وشبهًا ومثلاً.. فهذا هو توحيد العلم والاعتقاد.
والنوع الثاني:توحيد القصد والإرادة؛ وهو أن لا يُعبدَ إلا إياه، فلا يُشرَك به في عبادته سواه، بليكون وحده هو المعبود. وسورة ( الكافرون ) مشتملة على هذا النوع من نوعيْالتوحيد، فتضمنت بذلك السورتان نوعيْ التوحيد، وأخلصتا له.
سابعًا- ومن أسرار هذه السورة العظيمة ما تضمنه قوله تعالى في ختامها من التأكيد:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.
والسؤال هنا: هل أفاد هذا معنى زائدًا على ما تقدَّم ؟ والجواب: أن النفي في الآياتالسابقة أفاد براءته صلى الله عليه وسلم من معبوديهم، وأنه لا يتصور منه، ولاينبغي له أن يعبدهم، وهم أيضًا لا يكونون عابدين لمعبوده؛ كما أفاد إثبات ما تضمنهالنفي من جهتهم من الشرك والكفر، الذي هو حظهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسمهو، وغيره أرضًا، فقال له: لا تدخل في حدِّي، ولا أدخل في حدِّك، لك أرضك، وليأرضي. فتضمَّنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أن المؤمنين، والكافرين اقتسموا حظهمفيما بينهم، فأصاب المؤمنين التوحيدُ والإيمان، فهو نصيبهم، الذي اختصوا به، لايشركهم الكافرون فيه. وأصاب الكافرين الشركُ بالله تعالى والكفر به، فهو نصيبهم، الذياختصوا به، لا يشركهم المؤمنون فيه.
ثم إن في تقديم حظ الكافرين ونصيبهم في هذه الآية على حظ المؤمنين ونصيبهم، وتقديم ما يختص به المؤمنون على ما يختص به الكافرون فيأول السورة، من أسرار البيان، وبديع الخطاب ما لا يدركه إلا فرسان البلاغةوأربابها، وبيان ذلك:
أن السورة، لما اقتضت البراءة، واقتسام دينَيْ التوحيد،والشرك بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الكافرين، ورضي كلٌّ بقسمه، وكان المحقهو صاحب القسمة، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون، وأنه استولى على القسم الأشرف،والحظ الأعظم، أراد أن يشعرهم بسوء اختيارهم، فقدم قسمهم على قسمه، تهكمًا بهم،ونداءً على سوء اختيارهم، فكان ذلك- كما يقول ابن قيِّم الجوزيَّة- بمنزلة من اقتسمهو، وغيره سُمًَّا، وشفاءً، فرضي مقاسمه بالسمِّ؛ فإنه يقول له: لا تشاركني فيقسمي، ولا أشاركك في قسمك. لك قسمك، ولي قسمي !
ولهذا كان تقديم قوله تعالى:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾ على قوله:﴿ وَلِيَ دِينِ﴾ هنا أبلغ وأحسن؛ وكأنه يقول: هذا هو قسمكم، الذي آثرتموهبالتقديم، وزعمتم أنه أشرف القسمين، وأحقهما بالتقديم !!
وذكر ابن قيِّمالجوزيَّة وجهًا آخر، وهو: أن مقصود السورة براءة النبي صلى الله عليه وسلم مندينهم، ومعبودهم- هذا هو لبُّها ومغزاها- وجاء ذكر براءتهم من دينه و